12 Mar
12Mar

في القرية.

لم تكن الأمور أقلّ حميمية مما اعتدناه في الأفراح، كانت كلّ لحظاتنا أفراحاً مُصغرة، أمور نفعلها ونحن بكامل ضحكنا وانبهارانا بأيّ ألفةٍ تجمع هذه الوجوه.

الحصاد انتهى منذ أجيال، بات قصصاً تُحكى في الليالي، صارت الحصّادات هويةَ المزارعين والتراكتورات، الأسمدة التي أغنت الكثيرين عن الدروة الزراعية وانتاج البقوليات، إلا أن طقوس القطاف لم تنتهِ إلى هذا اليوم.

الزيتون هوية المكان وخيره، لا بيوت هناك بلا أشجار الخضار الباقي، كنا نخرج في صباحات الشتاء الأولى بكاملنا، شباباً وفتيات وعجائز، نستعير من بعضنا الدفء حين نضحك لكل شيء حصل ويحصل، لكل حركة نفعلها لكسر الصمت حين ننسى بأننا موجودين أيضاً معاً، ونفكر بأي حبة تصبح الزيت الذي يوزع ويباع ويدور بيوت القرية كلها، أسوداً كان أم أخضر، يصبح الأمر عرساً حين يصدح أحد القاطفين بأغنية وغالباً ما تكون "موليا":

"وتحوش زيتوني وتحوش زيتوني

ومكحلة للغوا وبميال زيتوني

يوم الكنت بجهلي كلكن تريدوني

واليوم يا حسيرتي مال الدهر بيا"

وكان القطن يفرد بياضه في مساحات متفرقة من الأراضي، لا أعرف كيف يمكن شرح الأمر، بعيداً عن الحالة نفسها، إلا أنك ما إن تلمس كرية البياض هذه حتى تشعر بأن أماناً ما حلّ في القلب، لم نكن مزارعي قطن، ولم نكن من قاطفيه الدائمين، وكان أبي يردد من عرس قديم مع أحمد التلاوي:

"ريت القطن ما يطلع ولا الموتور يديري

 بلكي هلك يعتازو ويعطوكي للعشيري

ونودي نودي نودي من الجسر للعامودي."

 قرب النوافذ حبق، أمام البيوت ياسمين، وليمون وتفاح، وأشجار تجعل المدينة ملونة عند كل موسم، كان لنا ألف حكاية تحت الأشجار أو فوقها، قرب حيطان البيوت، كنا نستظل بكل ما يمكن اعتباره، "ظلاً للجميع" ولطالما وجدنا أناساً لا نعرفهم في كرمنا، جالسين بكامل حبهم، ثم ما يلبثوا أن يصبحوا جزءاً من جلساتنا مع الشاي التي تصبح بنكهة التربة الحمراء، أو لنقل بطعم الأرض.

ثمة أشجار لحرق الحطب، وأشجار للقمة العيش، وأشجار لا نعرف أسمائها، وأخرى كانت مجرد زينة خضراء نعلق عليها أسمائنا وأمنياتنا وحكايتنا الصغيرة، في ليالي صيف "سراقب" يجن تحت الأشجار صوت الفرح، أو أمام مزارع البطيخ الاحمر والعجور، قرب بِركات السقاية التي تصبح في الظهيرة مسابحنا الوحيدة، نحكي لكل الذين مروا أو سيمرون أي أشجار تركنا هناك، وأي مواسم تنتظر أيادٍ وأغانٍ وألفة تجمع الوجوه، دائماً.
________________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة من الانترنت

تم عمل هذا الموقع بواسطة