هو صباح أخر، ولا شيء في الحي الجميل الذي أسكنه منذ قرابة سنة سوى صوت جارتي التي يعرفها الجميع، وتعرفهم، صوتها اليوم وهي تصرخ "محمد يا محمد المسيح قام" كفيل بأن يكون الصباح جميلاً، ولو سيكون هناك مشكلة حقيقية في تركيب الجملة حتى بقية العمر، على الأقل عند جارتي التي تسكن في الشقة التي بجانبي، والتي تضحك كلما كنت مشاركاً بالأعياد بعد صيحات جارتي التي لا تشيخ.
العطلة بعد العمل نكهة أخرى من الحياة الجميلة، حتى ولو انتهى الغاز الصغير ولم تنضج القهوة 100% الا أن ما يحدث في عطلة العمال، هو الوقت لكل شيء، حتى الصراخ في وجه الحياة، ووجه القبح كله.
هو صباح وأنت تتلمس خطاك القادمة بحذر، قدوم الأصدقاء لبيروت، رؤيتهم جميعاً ولو بأخر دولار في جيبك، بعض الصباحات قد تحمل لك الحب، قد تحمل لك ما تنتظره في قرارة نفسك، كأمك مثلاً وصوتها، أو صديقك الوحيد الذي أوشك على خلاصه الأخير من سجنٍ ليس له، وليس لك، لكنها "بيروت".
هي الصباحات بحلوها ومرها، بصوت الجيران عن بيض العيد، او اقتراب رمضان، بأغاني حسين الديك التي لن تهز بك شيئاً، او في ليل كان يتسلل لك به صوت "شادية" كخيط الضوء قبل صعود الحافلة أيام العمل، شادية التي تقول "جايز نحب وجايز لا"، شادية التي لا تشيخ ولو رحلت.
............
قبل ثلاث سنوات تماماً، جربت لأول مرة شعور العمال في الورشات، كانت ورشات الدهان أول تجاربي في عالم الغبار والحجر، الكهرباء والماء، قبل ثلاث سنوات لم يكن لدي أصدقاء في لبنان سوى العمال، ولا زال.
كلّ الذين عرفتهم يتخوفون من الاماكن هذه، لا أعرف عن أي مكان يتحدثون حين يقولون " يا محمد\ حمودي \ سراقب، الشغلة هاي مو مناسبة الك، انت مكانك مو هون"، أضحك بسري وأحياناً أقهقه حيث لا يفهم الكلّ أنني حين أتيت لبنان لم أكن شيئاً يُذكر، ولا زلت.
اليوم أكتب كلّ هذا وأنا في عودة للاماكن التي تسبح بالبساطة، بين أكياس الطين وتمديدات الحديد والبلاستيك، بين الشخوص التي تفترش الكرتون لتشاركك الطعام الذي نسميه "زوادة العامل" بكل الحب، هي سعادة أخرى أملكها في كل مرة أعود للأماكن هذه.
لكل الذين يكرهون مظهر عمال الساحات المنتظرين لباصات النقل، الذين يرتدون "كلاشات ام اصبع"، للذين يدعون أن العمال بحللهم يشوهون صورة ما لشعب ما إذا لم يكونوا على الموضة والحداثة، حقيقة لا كلام في جعبتي يصف ما بي من كره لكم، لا كلام في جعبتي لأقول لكم، ثلاث سنوات ولا صدق اجده إلا بينهم.
...........
المرات التي أركب بها البوسطة معدودة بشكل يكاد يكون نادرا، الصباح مع الراديو السمج لمقدمة تدعي الهضامة أصعب ما يمكن حدوثه خلال الساعة التي تفصل برج حمود عن الحمرا، هي ساعة من تحمل مفتش الصعود والشبان الحمقى وفتيات السيلفي وعجائز لا ملل لديهن من الحياة ولا من سؤالك " هلق هيك أحسن عندكن؟".
الشارع الذي يعتبر سوق النبعة، هو المكان الأنسب للهروب من كل شيء، شرطة البلدية تدور بسياراتها والذين مثلي بلا إقامة لا يخافون هنا، كلنا نعرف بعضنا، صديقي القادم من دمشق شتم كل شيء حين لم تتوقف سلاماتي مع الصحب، الصحب الذين يعرفون الشوارع والأرصفة حق المعرفة، وقبحك.
المذيعة المدعية الهضامة قبيحة جداً، كذلك وجوه الناس حين يهجم صيف بيروت فجأة، لعنة كبيرة على كل شيء، فتاة أحبها أرسلت لي مكدوس ومونة تكفي لهروب أخر من كل هذا، كل هذه التفاصيل التي لا تهم.
...........
قبلاً، وليست بمسافة أو مدة زمنية كافية للقول أن هذه ال "قبلاً" كافية لتعلم كل شيء، إلا أن الفتاة التي تركت لي العطر هذه المرة، تركته دفعة واحدة، وما زال.
نحن الذين نحني للوقت أطراف الجدائل، ونمسح بأخر نزفٍ في القلب وجه المدن، لا نتقن فن النطق، ولا فن التعريف لأمور نمر بها، فنعتبرها حناء أو صدأ، حيث لا ألوان في القلب بلا العطر.
الراحلات دائماً يتركن شيئاً من الأنين، الراحلون يجيدون مضغ الكبد والقلب، جميع من يتركك في محطات ولو كانت غرفة مشرفة على البحر أو الجبل، يترك لك الأنين وقليلاً من مساحة في القلب، لتشتم الحياة.
قد يكون كل هذا حب، قد لا يكون، لا فرق، كل الأمور التي نكتبها نخافها حقيقة، لا لشيء، إنما لحرص على الدمع وجدائل الوقت بيننا، فنترك للحناء والصدأ كل ما لدينا، ونصمت.
...........
قطعان الغيم تأكل الجبل أمامي ببطء شديد، النوافذ لا ترد لون الغيم إلى أصله، تحاول أكله بدورها، وأكلي.
التهمتني غيمة قبل عشر سنوات، حين كانت عالقاً في فسحة سطح منزلنا، أمنع نفسي من النزول خشية الخوف المتربص في زوايا البيوت والوجوه، دخلت في بطنها، ولم أسبح، فسقطت كمطر الصيف القذر، بلا حياة.
الجبال التي أسميناها كما يحلو لنا، تضع جدولاً زمنياً لقتلنا كل يوم، البعض يظن أن الجبال هي الأقرب الى الله، البعض يظن أنها أقرب للراحة المنشودة في رحلتنا في سلامنا الداخلي،حقيقة لا أعرف كيف أقول أن مطر صيف كنته قبل، وجدته في قمة الجبل المأكول من الغيم، بلا حياة أيضاً.
قطعان الغيم لا راعٍ لها سوى الريح، أسطحة المنازل لا ساكنين فيها منذ عشر سنوات، الله والروح والسلام والجبل، أمطار صيف بعيدة، أمطار قريبة لمن يسكن في قلب غيمة أو على قائمة جبل، للقتل أو النسيان.
_______________________________________
**محمد حاج حسين - كاتب سوري
* اللوحة للفنان "فينسنت فان كوخ"