في عام 2006 انطلقت بطولة الأحياء الشعبية في سراقب، كانت مدرسة الاعدادية "حسين الابراهيم"، تقع في الصخر الشمالي، سكان ذلك الحي معرفون بأنهم كالصخر، الا أن هذه الفرضية تتبخر حين تلاقيهم بضحكتهم وهم يركبون الحصادات أو السيارات الكبيرة، وكان لهم الفريق الذي كما كنا نفترض سيكتسح فريقنا، فريق الأقزام.
كنا أولاد الخامسة عشر، سبعة في الملعب نقابل سبعة عن ثلاثة من كل واحد منا، في قرارة أنفسنا كان الربح يعتمد على "أحمد الشواف" الذي كان كل الفريق، قلب الهجوم الذي لم يتكرر، والدفاع له أهله، له الذي لا يمل من الركض واستفزاز الخصم، كان "محمد ميلاد أبو ليث"، قادر على استفزاز سكون الأرض بحركاته اللعينة.
وكنا صغاراً ولنا أيام قادمة، ركضنا كأننا ننافس على بطولة الشامبيونز، كانت العمالقة أمامنا، والجمهور الذي أحضر هتافات لا أعرف من أين أتت، كان الجمهور يغني "عندك بحرية" و" رح اقطف وردات الدرب"، وكانت سراقب أكبر من كل شيء، أكبر من المرمى الذي سجلنا به، وأكبر من الحارس الذي رحل بدوره ككل الذي رحلوا بعد سنوات نقول عنها الوم "أخر خمس سنين".
لعبنا وكسبنا البطولة، بعيداً عما فعله شهيدينا يومها، كان "أحمد الشواف" في نظر الناس جميعاً أصغر من أن يكون لاعب كرة قدم، وكان أبو ليث أفضل من كل الذين ركضوا في هذه المجرة، كانا معاً أفضل من كل هذا الذي جرى، كانا أهم بكثير من براميل يلقيها أحد الحمقى ببرودة أعصاب، أهم من أن يرحلوا تباعاً، كما رحلت أحلام الجميع بعودة البطولة الى الصخر الشمالي، وصافرة "أبو أحمد" تعلن موسم الكرة، في صيف سراقب التي لم تملّ من الهتاف.
أبي كان يحب كرة القدم بشكلٍ هستيري، كان رئيس رابطة مشجعي نادي سراقب في الدرجة الثانية من الدوري، وكان مشجعاً ايطالياً عظيم، يحب اليوفي ومنه تعلمنا عشق هذا التاريخ الأبيض والأسود، ويحب الأسماء الحقيقية لكرة القدم، يعرف كيف بكى باجيو وأبكى كل الجالسين في منزلنا يومها، وكيف امتدت يد مارادونا لتصنع حلماً لجماهير تعرف اللعب الجميل، وكيف أهدى زيدان العالم متعة التشفي بمنتخب السامبا، ومن يكون بلاتيني الجميل، وبيليه النادر اللا متكرر، يعرف جيداً كيف يهتف لمنتخب سوريا بأسماء أفرحت جيلاً سابق، الشكوحي والكردغلي ومناف رمضان ابن مدينتنا الذي كان يصر على رؤية أبي في كل زيارة.
أبي كان المشجع الوحيد الذي أستطيع أن أشعر معه بمتعة الفوز، كان يشجع الريال، في ذكرى المباراة التي فازت بها برشلونة 6 مقابل 2 للريال، أجبرني على الخروج من المنزل بعد فرحي بأهداف برشلونة قبل أن تنتهي المباراة، كان مشجعاً يحفظ أسماء اللاعبين، يسهر ليرى البوكا والريفر بلايت في أجمل مباراة في القارة اللاتينية، كان أبي الرياضي الوحيد الذي فرحت معه بكأس العالم 2006 من القلب، لأنه لم يخفِ يوماً حبه للطليان من أجل العربي المسلم الذي يحبه، أبي رحل بعد المونديال الأخير بشهور، لم يستطع رؤية مجدٍ جديد، لكنه ترك مكاناً شاغراً في ذاكرتي عن الهتاف الجميل، حين كانت لدينا كرة قدم نحلم بها في "حرش سراقب"، ويصرخ "واتفرج بالملاعب وحيي نادي سراقب"، ونصرخ خلفه "تعا تفرج يا خيي ع لعب السراقبية".
اللعبة التي اسمها الحياة أكبر من أستطيع الاتكال على نفسي، واللعب وحيداً ضد كل شيء، لم يبتلعني الحزن دفعة واحدة، أعدني على مهل، بتأن كأنني خلاصة انتظاره، كأنني برعم شجرة الخلود التي يسقيها، جاورني حتى تشابهنا، كالملح والطين والاسم، الحزن يلتصق بك ولا فكاك، خمس وعشرون سنة والحزن يراني في المرآة، صارعته في طرقات المدن ككل اولاد الشوارع، شربنا نخباً أكثر مما مررت بالماء، سمعنا الشعر نفسه، وقرأنا كل شيء معاً.
ولطالما كان ماهراً في الشعر وفي اللحن وفي تقليم الأظافر، الا أن الحزن امهر من يطهو وجباته ال نحن، تذوقني في سراقب، وحلب ودمشق ثم التهمني في بيروت، كأنني عشاءه الاخير.
كان يمكن لنا أن نصنع مجداً في ألعابنا هذه، مجداً من راحلين، لو أنهم انتظروا الصافرة من جديد.
________________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة من الانترنت