يدور الشاي في العرس دورة الفرح، القهوة المرة تشترك في طينتنا، إلا أننا أولاد الشاي المعتق المُزاد سكراً أكثر مما يعرف القوم، نعرف أي سعادة تأتي مع الإبريق النحاسي، وصوت أغانٍ تتكرر في كل تعليلة، في كل عرس، في كل زاوية.
كنا نشتري الشاي "الفلت" بالكيلو، ينتهي اليوم وأنت تكون قد شربت خابيةً من السعادة، طعم سراقب يأتيك حين تمر أمام الجالسين على "دكة" البيوت وأرصفة الشوارع، لتشرب شاياً لا تعرف صانعها ولا مضيفك، إلا أنك تعرف أنك أخذتها بحب، كما قدمت لك، بحب.
في تقاليدنا لا وجود للوحدة، لا أعراس بصمت، لا أحزان بصمت، نحن الذين نهرب من الوحدة إلى أزقة لا نعرفها فنشارك أطفال الحارات ألعابهم، وأصحاب عرسٍ غريب دبكتهم، ومفارقين لا نعرفهم نواحهم والدمع، ندرك تماماً أن ما يربطنا أكبر من الشرح، ثمة رَجعُ جمال في ما نشاركه، هنالك دائماً " عراسي يا أخوي"، تُغنيك عن كل شيء، ولو أتت من غريب.
نحن الذين نُعتق الشاي على الأسطحة قُرب حماماتِ "الزق"، والعيون تراقب الكشة، ونافذة ابنة الجيران، والمارات على كثرتهن، نُكن لصوت "ياس خضر" حباً لا ينتهي، كأحزاننا وغرامياتنا المعلقة في السماء والأرض، مرتبطة بصوت أغنية تمثلنا "يابنية عليّ الطاقة لحمامات"، هي أغنية قادمة من الفرات، كانت سراقب تشرب العراق في تراثها حتى يكاد يختلط الأمر، فتصبح سراقب أقرب من الفرات لنفسه، تماماً كصوت الشيخ خالد حين يرفع الأذان بصوت لا أعرف كيف أصفه، إلا أنني حين سمعته مسجلاً، بكيت كما يجب.
شاي الورشات والعمل كذلك نعتقها، بالأغاني عينها، بالأصوات التي تربطنا بالحب بالحزن، ننفض الغبار ونغتسل، ندخل العرس ونحن نغني "هدني يا ولد هدني" العداوية التي تجلب المسبة للعمال والأطباء والطلاب والمهندسين، وكل ما يمكن لرجل أن يكونه كمهنة هناك، نصدح ونقول " يلعن ابو الفلاح وام الي بتاخد فلاح ... ولما بيزعل الفلاح وبالمنجل يردردني .. هدني يا ولد هدني".
كنتُ أصرخ "يوم"، لا نعرف كيف نقول "ماما"، يأتي الشاي مع "كجوجات" الدبس والزعتر، أنفاس أمك كلها هناك، مركزة في كل كأس، تخرج بخاراً يكسر برد شتاءٍ وكآبةَ عزلة الدراسة، تتركُ على الشفاه عمراً قضته وهي تعد هذا الشراب لكل من مر، فيصبحون بداخلك، بكلماتهم وعقالاتهم الحمراء والبيضاء، بكلابياتهم الملونة، بشتائهم ودعائهم ونواحهم وأنينهم، كل الذين مروا على هذه الكؤوس يسكنوك كأنك بيت ممتلئ بالوجوه، ستصبح بعد عمرٍ أحدهم في قلب أخر، حين يشربك ولو في رحيل.
اليوم أعتقُ هذه القصص مع كل إبريق شاي، وحيداً كما تفرق كلنا، لوحدةٍ لا "هدني يا ولد" فيها، ولا سكراً يُحلي الشاي ولو كانت هناك.
__________________________
* الصورة من الانترنت