27 Feb
27Feb

يُمكنك القول بأنها استوت حتى كادت تكون بلا ارتفاعات، هذه البقعة التي يسكنها اللون الأخضر، ويفصلها جسر حلب – دمشق، عن الأراضي والمدينة، التي تصمت في الشتاء، حيث تسكنها الريح، وسهرات الحكايات والأغاني.
 يبدأ الشتاء عادة بالذهاب للمدارس، قَبلاً كان يبدأ بالخوف من كل شيء، حيث الفقر يُطبق ككلب مسعور فكيّه على كل الذين يروون سيرة الهلالي والزير، لأطفال يمسكهم البرد والحب معاً، فيخرجون أجساد صلبة، تكبر لتصبح ارتجاف قلب وعمر حين الشيخوخة تصبح الكلب المسعور الذي ينهشهم، والفقد.

كنّا في الشتاء نُحضر الشموع لطقوس الاستماع، والرقص على مواويل لأب وأم وأعمام، قصص العتابا أجمل ما يمكن أن تسمعه في سراقب، يعرفون من قاله وكيف قيل ولمن، كنتُ ابن عشر سنوات حين بدأتْ تسحرني قصص المواويل، قال لي عمي أنّ موال "ما شمر تياب" قيل للتي لم ترأف بقلب عاشقها (نسيت الاسم) إلا أن الوصف كان أجمل، كان يترصدها في درب موحل، وبركة ماء تفصلهم، ينتظر أن ترفع ثوبها لتعبر، إلا أنها لم تفعل أياً من ذلك ومرت كما لو انها قتلت فيه الطفل والحب، فقال :
" متى نلتقي والعين بالعين
 ونشرب من لبن هالنوق بلعين
 اني لرافق السمكات بالعين
 جكر ب الخاض وما شمر تياب…"

كان أبي يقول لي في ليالي كانون، "ناقص حب من لا يسمع العراق"، وحملتها في القلب إلى اليوم، أبي كان يقول مواويل الحصاد كلها، ولا يأتي على ذكر القصص التي أتت منها، مرة قال لي: خذ هذا الموال، فأنا حفظته من جدك.
 "يا حاصود السبل يغنيك تبناي
 انهدم بيت الحبيب ال كنت تبناي
 يسولفني القلب ويقول تبناي
 يغافلني ويعود على الاحباب"

هذا ما لا طاقة لي به، حين تجن النسوة في غصة صوت القدامى والحفظة الحق للمواويل، يصبح كل شيء خابية حب لا تنكسر، ولا ينتهي ماؤها، بعض المواويل قاسية، قاسية حد النحيب، لطالما رأيت دموع رجال يرفعون أحمالاً تعادلني مرتين، رجالاً أخشاناً بقلوب أطفال، أم أحمد كانت تُسر لي كل قصص أمي وأبي وقصصها، والجميع، في سعادتها التي لم تتبدل روت لي كيف تعرفت بزوجها، كان جالساً قرب "جدار المعلوسة" يلف السجائر، دنت منه وقالت:
 "لفلي سيكارة تتن من باكة الغازي
 وان جاد نارك طفت شعل من بزازي."
 وكانت إلى اليوم أبلغ تعبير عن العشق، والنار التي تشتعل حين الحب في الصدر، قالت بأنها أعدت مواويلاً لكل لحظة معه، حين سافر إلى السعودية قبل قدومي قالت له بهمس :
 يا شوق لو تنطوى ويا جيبة لو بتساع
 لطويك طي المحرمة واقول ولفي ضاع

أمي كانت تحفظ المواويل التي مطالعها "حادي العيس"، تقولها كما ينبغي أن يقولها الجميع، بتنهدات وحب، أول مرة كانت في عرس اختي الوسطى، قالته وهي تبكي، وسمعته وانا أبكي
 " يا حادي العيس ما مرت عنودي
 قلبها طيب بس طبعا عنودي
 تعا يا ديب واتسمع ع نودي
 انا يا ديب فارقت الاحباب"

أنظر اليوم لصورة لباب بيتنا، أنتظر موالاً خارجاً من هناك أو داخلاً كما كنت أستقبل الشتاء ورواة المواويل قبل سنوات، حين كنا ننشد في كل ليلة "موليا" و"هيلا لما"، أنظر للباب البعيد وأقول للقلب بصمت
 " يا دنيا عالمصايب عاونيني
 حجار الصم بكت ع ونيني
 دفق دمع البيا بي ع ونيني
 انهدم عامود بيتي وانخرب"

واحملني يا قلب موالاً، او شعلة لسيجارة أبو أحمد أو بركة ماء تدوسها أقدام لا أعرفها في شتاء قريب.
___________________________________________
** محمد حاج حسين - كاتب سوري
* الصورة (منزل أبو رامز في سراقب) بعدسة "حسن فياض".

تم عمل هذا الموقع بواسطة