انتشرت في بيروت، أواخر الثمانينات، صالات "البينغو"، واستقطبت رواداً من كلّ الأعمار والمستويات.
لم يطل بي الوقت حتى وجدت طريقي إلى احدى هذه الصالات، وعشقت اللعبة...
"البينغو" هي لعبة القمار الشعبية والاجتماعية الأكثر شهرة في أنحاء العالم، وقد انتقلت من لعبة ترفيهية تُختتم بها سهرات الفنادق الفخمة في زمن ما قبل الحرب، إلى لعبة شبه مخصّصة للمسنّين والمتقاعدين في بعض النوادي الاجتماعية...ولكنها في الزمن اللبناني الصعب، تحولّت إلى لعبة مضادة لتأثيرات الحرب!
هناك، في صالات "البينغو" راح اللبنانيون يفرغون ضغوطات يومهم، ويهربون من نشرات الأخبار، ويحلمون بالثروة الصغيرة التي يعودون بها إلى بيوتهم مع الفجر!
ذات مساء، كنت راجعا إلى "الوست هاوس" برفقة زياد مظلوم، بعد أن اشترينا مناقيش الجبنة التي اشتهر بها "بربر" (يومها كان "بربر" مجرد فرن متواضع تجرّأ وفتح في وسط شارع الحمرا بدوام 24 على 24)، ومررنا أمام صالة "مونتي كارلو"، ووصلتنا الأصوات "الشهية": 12، دووز، توالف...
لم يكن بين أفراد "الشلّة" من يمكن أن ينساقا إلى أقصى الجنون في حال اجتمعا منفردين، سوى أنا والمظلوم! ولم يحتج الأمر إلى أكثر من 10 ثوان قررنا خلالها أن نقتحم الصالة ونستكشف أسرار "البينغو"!
لم نكن نعرف عن اللعبة سوى فكرة عامة عن قواعدها، لكننا جلسنا بكلّ ثقة على إحدى الطاولات، ورحنا "نلعب"!
في "البينغو" هناك جائزتان، الأولى صغيرة تفوز بها البطاقة الأولى التي تسبق إلى اقفال 5 أرقام على خط مستقيم، ويصرخ صاحبها "لاين" لإعلان فوزه...والثانية هي الجائزة الكبرى التي تفوز بها البطاقة المحظوظة التي تسبق إلى اقفال كلّ الأرقام، ويحصل صاحبها على قيمة البينغو، مع ما يرافق ذلك من تهنئة وتبريكات و"ضيافات"!
ومثل "دويك" حين نزل من الضيعة إلى بيروت، كان الشوط في نهايته حين أقفلنا، أنا والمظلوم، خطاً مستقيماً في إحدى البطاقات، ورحنا نصرخ كالمجانين: "لاين"، "لاين"! واللعبة مستمرة دون أن يلتفت أحد إلى صراخنا الهستيري، وسط نظرات "غريبة" من جمهور اللاعبين ما لبثت أن تحولت إلى ابتسامات...فقهقهات!
كنّا "كوميديا" تللك الليلة!
مع انتهاء الشوط، تقدّم إلى طاولتنا رجل يقترب من الثمانين، جلس بهدوء وقال لنا: أهلا بكما في "الجامعة"، أنا العميد هنا وسأعلّمكما أصول "المصلحة"...
تعلّمنا، و"جرجرنا" باقي "الشلّة" إلى "الجامعة"، وربحنا وخسرنا، ونسجنا علاقات وثيقة مع بشر لا نعرف أسماءهم، فالناس نادراً ما "يتعارفون" في صالات "البينغو"، إنهم فقط يصبحون أصدقاء بلا أسماء...
خلال أسابيع، اكتشفنا كلّ صالات "البينغو" في بيروت، وواظبنا على أكبر 3 صالات هي "مونتي كارلو" و"سارولا" في الحمرا، و"لايم لايت" في الروشة.
زياد مظلوم "انسحب" من المغامرة بسرعة، لكن زياد غالب أحبّ اللعبة مثلي، وصرنا نمضي سهرات طويلة في تلك الصالات، وصرنا "معروفين" لدى من يديرونها، كما صار لنا شلل متنوعة وأصدقاء، ولعل أشهر صديق لنا رجل في اواسط عمره توثّقت علاقتنا به إلى حدّ تبادل وشوشات سياسية، غير أننا لم نعرف اسمه!
وذات ليلة، كنّا نوصله إلى بيته بعد انفضاض اللعب، وأوقفنا حاجز سوري وسأل عن أسمائنا...وسمعنا اسمه لأول مرّة بعد سنة من صداقتنا: شوقي قنطار!
لاحقاً، سنلتقي صديقاً ثانياً لا نعرف اسمه حين زرناه كناشرين بصفته أحد مدراء الشركة العربية للتوزيع! إنه ياسين الذي عرفنا بدوره، لكننا اخترنا ثلاثتنا أن نبقى "محترمين" ولا نفتح سيرة "البينغو" خلال لقاءات العمل!
صديق ثالث رأيناه على شاشة التلفزيون خلال الانتخابات النيابية عام 1992! كان رئيس "الماكينة" الانتخابية لزعيم جنوبي كبير!
هؤلاء البشر قامت بيننا وبينهم أغرب صداقات يمكن أن تنشأ بين البشر، حيث كنّا ندعو بعضنا البعض إلى عشاءات سريعة، ولا نتردد في استدانة المال من بعضنا البعض حين يجافي واحدنا الحظ قبل انتهاء السهرة! وكنّا نقلق على من يطول غيابه لأكثر من يومين، ونسأل عنه الأقرب إليه من "شلّته" بهدف الاطمئنان!
لا شك أنني أدمنت "البينغو"!
سحرتني اللعبة التي تقدّم للمرء، مع كلّ شوط جديد كلّ 5 دقائق، اثارة جديدة وبداية جديدة وفرصة جديدة!
سحرتني "الأماكن" التي تتمّ فيها بأجوائها الشعبية الحميمة!
وسحرني "الخطر" الذي ينغمس فيه العقل وهو يراقب الطابات تتوالى على الشاشات الصغيرة، منتظرا طابته التي لا بدّ أن تأتي يوما...
زياد حاول أن يقاوم هذا الإدمان، فكان يمتنع أحيانا عن مرافقتي، فألجأ إلى رمزي بحوث، وذات يوم "سحبت" معي فواز حامدي الذي أمضى أكثر من 7 ساعات وهو "يتفرّج"!
فواز لم يحبّ اللعبة، لكنه أحبّ علاقتي بها...وفي الليلة التي رافقني فيها حالفني حظ خارق، فكسبت عدة أشواط، وأثرت استياء الجمهور الذي بدأ بالانصراف من الصالة، مما اضطرها إلى الإغلاق قبل منتصف الليل.
كانت صالات "البينغو" تتنافس على استقطاب الرواد، عبر الأشواط الذهبية التي يتم اجراؤها بين فترة وأخرى، وتكون الجائزة الكبرى في مثل هذا الشوط "ثروة" لا بأس بها! وقد ربحنا يوما احدى هذه الثروات المتواضعة، ولكن!
كانت الجائزة 5 ملايين ليرة، ما يعادل نحو 5000 دولار أميركي في ذلك الوقت، وكنّا قد حصلنا، أنا وزياد، على أكثر من خمسين بطاقة! وفوجئنا قبيل انطلاق الشوط بلحظات، بأحد العاملين في الصالة، ويدعى حويشان زعيتر ويسكن في عمارة "بست هوم" المجاورة لنا، يضع على طاولتنا حوالي 20 بطاقة مع اشارة من عينيه!
لم يكن يحق للعاملين في الصالة اللعب، واعتقدنا أن حويشان قد أهدانا البطاقات!
فزنا بالملايين ووزعنا الهدايا والاكراميات التي وصلت إلى مليون تقريبا، وعدنا إلى البيوت "ثريين"!
في تلك الفترة كنّا قد انتقلنا للسكن في "الوست هاوس 2"، بعد سفر زياد وطارق مظلوم لمتابعة تخصّصهما في الصيدلة في أميركا، وقد حللنا في شقتهما التي تحمل الرقم 28. لم نناقش أمر ثروتنا من شدة الإنهاك بعد ليل طويل، ولجأ كلّ منّا إلى سريره...
في الرابعة فجرا أيقظنا طرق على الباب! إنه حويشان ومعه "ثلة" من جيراننا الزعاترة...
فتحت له الباب ودخل وحده، وقال أنه آت ليشرب معنا "فنجان قهوة"!
زياد استوعب ما يجري قبلي، وقام ليحضر القهوة، لكنه عاد ومعه رزم المال ووضعها على الطاولة الصغيرة أمام حويشان، دون كلام!
وأيضاً، دون كلام، أخذ حويشان يضع الرزم في جيوبه، ثم وضع على الطاولة 5 رزم قيمتها 500 ألف ليرة، وغادر مبتسما بدون قهوة...
في الأشواط الذهبية التي تلت، حاول حويشان أن يمنحنا بطاقاته أيضا، لكننا كنّا نرفض! تعلّمنا الدرس!
الشوط الذهبي الأهم الذي فزنا به، كان في صالة "لايم لايت"، وكانت الجائزة سيارة "رينو 5" مستعملة، لكنها بحالة جيّدة!
أذكر أن شخصاً لا أعرفه أصرّ على مشاركتي في إحدى البطاقات، وقد كانت بطاقة سحرية، وسرعان ما أقفلنا أرقامها باستثناء طابة الحظ رقم 72!
ألقيت نظرة على بطاقة زياد الجالس بجواري فوجدت أنها بطاقة مبشّرة، وسرعان ما أقفل أرقامها باستثناء رقم 2!
ومرّت لحظات مشحونة، أتمنى فيها عدم ظهور الطابة رقم 72، وأبتهل لظهور الطابة رقم 2!
وظهر رقم 2، وصرخ زياد "بينغو"، وعدنا إلى البيت نقود سيارة! أول سيّارة نمتلكها...
هذه "الرينو" ستصبح "سيارة الجمعية"، لكنها ستخذلنا كثيراً في المشاوير الطويلة والقصيرة! قطعتنا عشرات المرّات، وأنفقنا في تصليحها الكثير، ثم قررنا بيعها!
لم نعرضها أمام "الوست هاوس" للبيع أكثر من 24 ساعة، فقد حدّدنا لها سعرا مغريا هو 2000 دولار، وأيقظني شابان صغيران في الصباح يرغبان بشرائها، فبعتها لهما بألف وسبعمئة دولار، وأكملت نومي!
انتهت علاقتي بالبينغو، مع صدور تعميم مفاجئ من وزير الداخلية آنذاك اللواء سامي الخطيب، بإقفال صالات "البينغو" في كلّ لبنان!
لاحقاً، ومع إعادة افتتاح صالات اللعب في "كازينو لبنان" سوف يتمّ حظر هذه اللعبة بشكل نهائي! قرّرت الدولة أن تحتكر ألعاب القمار...
أحنّ إلى "البينغو"! ليس إلى اللعبة، فقد صودف أن دخلت صالات بينغو في دبي واسطنبول وأحسست بملل فظيع!
اكتشفت أن حنيني هو، حصراً، لذاك المناخ العائلي الحميم الذي تميّزت به تلك الصالات البيروتية في زمن مضى...
لربما أحتاج إلى حرب أهلية، وانقطاع متواصل في الكهرباء، وذعر دائم من المرور أمام مكبّات النفايات خشية أن تكون مفخّخة بالعبوات، وربما أيضاً إلى "حرب تحرير" و"حرب الغاء"، وإلى صدام حسين يجتاح الكويت، وقبل كلّ ذلك إلى العودة إلى سن الخامسة والعشرين...لكي أستعيد الشغف العتيق بلعبة "البينغو"!
________________________________________________
** طلال شتوي - كاتب لبناني
* الصورة ( طلال شتوي على كورنيش المنارة في حقبة البينغو).