تأنيب الضمير، كلمة سمعها للمرة الأولى في حياته عندما كان في سن الطفولة، وظل لفترة طويلة يتصور الضمير كائناً ، عندما يخطئ صاحبه يتجسد له في الهواء ويقف في مواجهته موبخاً إياه بكلمات كان يسمعها من أبيه وأمه، ثم في فترة لاحقة بدأ يتخيله كشرطي يحمل هراوة وعلى حزامه مسدس بجراب جلدي، ولكن بعد أن وعى قليلا وأدرك أن مثل هذه الكائنات محض خرافة، لا يمكن أن تتجسد على أرض الواقع، بدأت المسألة تحيره، فكيف يظهر الضمير لصاحبه ، وكيف يؤنبه، وما هي الكلمات التي يقولها له، ومتى يحدث ذلك، وغيرها الكثير من الأسئلة التي لم يستطع خياله البالغ أن يجد لها تفسيراً، كما فعل خياله الطفولي في السابق، وبما أنه يتمتع بـ"أنا أعلى" يقظ وفي حالة استنفار دائم فإنه لم يتمكن من ارتكاب إثم يجعل ضميره الشخصي ينبثق له ويؤنبه، فيتعرف على الموضوع بالتجربة الشخصية، وفي أكثر من مرة عقد النية على توجيه السؤال لبعض معارفه ولكن أناه الأعلى أوقفه قائلا: (سيعتقدونك ساذجاً)، فيتراجع عن السؤال، رغم أن المسالة ظلت تحيره.
وذات سهرة وبعد أن جرع عدداً من الكؤوس، استغل حالة الثمالة التي سقط فيها أناه الأعلى وقرر أن يوجه السؤال في غفلة منه إلى صديق كانوا يلقبونه بالفيلسوف، ولكن أناه الأعلى الذي شعر بالمؤامرة في اللحظة الأخيرة، تمكن من رفع رأسه وقال له بلسان ثقيل: (تصنع المزاح كي لا يعتقدونك ساذجاً)، فابتسم وتصنع أنه يمازح الفيلسوف وسأله بنبرة توحي بالمداعبة، بعد أن استرخى على الكرسي:
- بماذا يشعر الإنسان عندما يؤنبه ضميره؟..
لم يكن الفيلسوف يحتاج إلى تفكير للإجابة على الأسئلة، فقد كان لديه إجابات عليها كلها، ولو كان أصدقاءه أكثر دقة لأطلقوا عليه لقب" ألف جواب لألف سؤال"، ولذلك رد على الفور:
- حسب نوع الضمير.. فإذا كان متصلاً، فتك بصاحبه، لأن هذا النوع من الضمائر لا يسهو ولا يغفو، ويقف لصاحبه بالمرصاد، وأصحاب الضمائر المتصلة أشخاص يعيشون في عذاب دائم، وغالباً ما ينتهون إما بالسجن وإما بالشيزوفرينيا، لأن ضميرهم في حالة استنفار مستمر، وأنا أسميه الضمير العضال، لأنه يقتل صاحبه.
- ولماذا يعطونه الفرصة لذلك؟.. ليفعل كل منهم ما يرضي ضميره ويتخلص من هذا العذاب.
- الأمر ليس بأيديهم، فجميعهم عادة ما يكونون مصابين بمتلازمة " المبدأ" ولذلك يطلقون الشعارات والوعود ثم سرعان ما يكتشفون أنها غير قابلة للتطبيق، ولكن بعد أن ورطوا الناس بها، وهنا يخرج لهم ذلك اللئيم، ضميرهم المتصل، ويرتكب بحقهم الجرائم.
- يا ساتر.. ضمير حقير.. هذا المتصل.
- حتى إذا لم تفعل شيئاً، يجد لك ضميرك المتصل مبرراً لكي يؤنبك، أعرف صديقاً يعاني من ضمير متصل، يؤنبه على خطأ نبشه له من الذاكرة، حدث معه قبل ثلاثين عاماً عندما كان في الصف الرابع، في المدرسة الابتدائية، اغتصاب.
- اغتصاب؟!! في الصف الرابع؟!!
- هكذا سماها ضميره المتصل، لكي يمعن في تعذيبه، اغتصاب صندويشة فلافل من يد تلميذ في الصف الثاني.. تصور..
- لعنة الله على هذا الضمير، هذا بلاء وليس ضميراً.
- نعم.. أنت على حق، ولكن ما يثلج الصدر أن قلة قليلة فقط تعاني منه، أما البقية فيعانون من ضمير آخر أقل حدة، هو الضمير المنفصل.
- وبم يتميز هؤلاء؟
- هؤلاء يتميزون بقوة الشخصية وثبات الحجة والبرهان، ويتعاملون مع ضمائرهم تعامل الند للند، فمثلاً ليس كل ما تراه ضمائرهم خطأ يعتبرونه خطأ، ويمكن القول بكلام مختصر أنهم سحبوا من تلك الضمائر حق الفيتو، تستطيع أن تبدي رأيها، ولكن هذا الرأي غير ملزم، كما أن الضمير المنفصل يتميز بأنه يشعر بالتعب ويضطر للنوم أحيانا، ولذلك عندما يشعرون أن حجة الضمير قوية يرهقون هذا الضمير ويدفعونه للنوم عنوة تحت ضغط الإرهاق.
- -كيف؟
- يطلقون الكثير من الوعود والشعارات أثناء صحوته، ولا يشعرون بوجوده عند التنفيذ، وإذا صادف واستيقظ يقنعونه بأنهم حققوا الشعارات ولبوا الوعود، وهو يصمت.
- أففف.. كيف؟
- يفهمونه أن السبب هو مؤامرة.
- ويصدق ذلك؟
- لا يصدق، ولكنه يخشى أن يتهم بالاشتراك فيها فيفضل الصمت.
- ضمير متواطئ.
- مجبر على ذلك، لكي لا يصيبه ما أصاب الضمير المستتر.
- وهذا.. كيف يعاني أصحابه؟
- هذا أصحابه لا يعانون، فهو إما هارب وإما في غياهب السجون، ويمكن القول أنه هو الذي يعاني من أصحابه، أما هم فيرتكبون السبعة وذمتها.
- طبعا.. لأنهم بلا ضمير
- لا.. ليسوا بلا ضمير..لأن الإنسان لا يستطيع العيش بلا ضمير.. ولذلك يستخدمون ضميراً مستعاراً يزين لصاحبه الوزر لكي ينام قرير العين، حتى لو أراد الشخص أن يسرق أباه...
- طيب.. وأولئك الذين يطلقون الشعارات ويتزمتون لها مثل أصحاب الضمير المتصل، وحجتهم قوية لدرجة أنهم يقنعونك أن العنزة ذكر والتيس أنثى مثل أصحاب الضمير المنفصل، ويرتكبون العشرة وذمتها مثل أصحاب الضمير المستتر، ما وضعهم في فلسفتك؟
- هؤلاء ضمير الواحد منهم شبه الزائدة الدودية.
- يؤلمهم.. وينقف عليهم؟
- لا.. لا يؤلمهم.. ولا ينقف عليهم..استأصلوه من التأنيب الأول.
____________________________________
** د. ممدوح حمادة - كاتب وسيناريست سوري.
* اللوحة للفنان الاسباني سلفادور دالي - (The Remorse of Conscience 1930)